«حينما تبحث عن الانتقام، احفر قبرين، أحدهما لك».
يمكن استدعاء هذه الحكمة القديمة، ربما حتى بشكل حرفي، حينما تشاهد الفيلم الأحدث للمخرج الإيراني «جعفر بناهي» والمعنون «Un simple accident» أو «حادثة بسيطة».
الفيلم المتوّج بالسعفة الذهبية لأفضل فيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته الثامنة والسبعين لعام 2025، قد ضمن لجعفر بناهي شرفًا كبيرًا كونه واحدًا من أربعة فقط في تاريخ السينما العالمية استطاعوا أن يجمعوا بين السعفة الذهبية في كان، مع دب برلين الذهبي، وأسد فينيسيا الذهبي أيضًا.
فوز بناهي يأتي كحدث متكرر لتبجيل السينما الإيرانية عالميًّا، تكرار أثار حتى سخرية البعض، الذين شعروا كما لو كانوا قد سمعوا هذا الخبر بنفس تفاصيله من قبل.
هل نجح بناهي في صناعة فيلم مختلف عن تيمة مكررة مثل الانتقام؟ وهل يوجد فارق بين الأفلام الإيرانية التي تفوز كل عام تقريبًا بإحدى الجوائز الكبرى عالميًا؟
تدور أحداث الفيلم عن حادثة بسيطة لسيارة بها أسرة مكوّنة من أب وأم إيرانيين وطفلتهما الصغيرة، تضطر الأسرة للتوقف في ورشة لتصليح السيارات.
داخل الورشة، يكتشف أحد العمال أن الأب ربما يكون هو المحقّق الذي قام بتعذيبه بعد القبض عليه في إحدى التظاهرات. هذا الشك، المختلط بالكثير من الغضب، يدفع هذا العامل للبدء في فعل انتقامي نتابع تفاصيله طوال أحداث الفيلم.
السؤال الأخلاقي هو ببساطة: هل نقوم بالانتقام ممن ظلمنا بناءً على شك؟ وهل، حتى لو تأكد شكنا، نذيقه كل ما أذاقنا إياه؟
يصبح السؤال هنا ليس سؤالًا فرديًا، بل معضلة جماعية. يتجول العامل خلال الفيلم، يجمع آخرين ممن شاركوه تجربة الاعتقال والتعذيب، بحثًا عن تأكيد، وبحثًا عن إجابة.
يبدو التعريف الحرفي للانتقام هو التعبير عن غضبك ممن ظلمك، وتطبيق العدالة عليه بيدك. يحمل فعل الانتقام قيمة تنفيسية، ليس فقط لمن يقوم به على شاشة السينما، بل لكل من يشاهده أيضًا من مقاعد المتفرجين، ولهذا يؤمن كثيرون أن أفلام الانتقام هي نوع فيلمي مضمون النجاح. فالعالم مكان غير عادل، مليء بمليارات المظاليم، وملايين منهم يريدون أن يروا الانتقام بأكثر الدرجات عنفًا على الشاشة. لهذا، يستمر البشر في صنع نسخة تلو أخرى من «الكونت دي مونت كريستو».
هنا يصنع بناهي نسخته التطهرية الخاصة من فعل الانتقام، حيث يبدو أن السؤال ليس: هل نتطهر من خلال تعذيب وقتل من قام بتعذيبنا؟ بل: هل لو قمنا بذلك، سنتحوّل إلى نسخةٍ مما كنا نحارب ضده؟
يصنع الفيلم حالة من الشك لدى مُشاهده، ومرةً أخرى تصدمنا السينما الإيرانية بحكاية واقعية تضعنا أمام معضلة أخلاقية، وتجعلنا نطرح أسئلة جديدة بدلًا من أن تعطينا إجابات سهلة.
لا يطبع الفيلم إحساسًا خاصًا أو جديدًا لديك كمشاهد، هي زيارة جديدة لعالم قديم تعرفه، لكن تقديره يأتي، ليس فقط لمستواه السينمائي، بل أيضًا لقيمته التحررية.
نحن أمام فيلم تم تصويره كفعل ثوري، في الخفاء، وبنساءٍ يرفضن أن يرتدين الزي الذي فُرض عليهن. تم القبض على من لم تلتزم به، وتعرّضت بعضهن للتعذيب، ومات بعضهن.
هنا تبدو السعفة الذهبية رسالة من مجتمع السينما، لتقدير السينما التي يقوم بها صانعوها كفعل تحرري تحت التهديد.
هل الأمر بهذه البساطة إذًا؟ سينما إيرانية تحررية تُكرمها المهرجانات الأوروبية عامًا تلو الآخر؟
تمثل السينما الإيرانية مصدر إلهام للعديد من محبي وصناع السينما حول العالم، وكاتب هذا المقال واحد منهم. لن نطيل الحديث عن سينما الجيل الذي ينتمي إليه جعفر بناهي نفسه، لكن ما نعيشه الآن يجعل من تقديرها كعمل تحرري تناقضًا لا يمكن تجاهله.
لسنا في أولمبياد المعاناة، ولا نريد أن نقارن مأساة بمأساة، لكن في زمن الإبادة الجماعية في غزة، والتي تخشى نفس المهرجانات السينمائية حتى الآن أن تسميها بما هي عليه، وأن تسمي الجاني باسمه، لا معنى للادعاء بأن نفس المهرجانات لها موقف سياسي ثوري. يصبح، في هذه اللحظة، تكريم السينما الإيرانية خيارًا سهلًا. ليس سهلًا بالتأكيد لصُنّاعها الذين يعانون بشكل حقيقي داخل إيران، لكنه سهل لصناعة السينما العالمية، ولحكومات هذه الصناعة، العاجزة، الصامتة، والمشاركة في بعض الأحيان، في الإبادة التي نعيشها الآن.